موقع الشاعر اليمني عباس علي الديلمي


دراسات ومقالات حول الشاعر

المقال الأول :

       قراءات في غنائيات عباس الديلمي
 
             الدكتورة/ وجدان الصائغ

لغتنا الشعرية الفصيحة هي بالضرورة لغة مكانية، ومن هذا المنطلق انحدر تعاملنا مع فراديس القصيدة التي لم تستطع منذ العصر الجاهلي ان تخرج عن دائرة المكان الذي بقيت تتغنى به في حلّها وترحالها، وحتى حين شاءت ان تثور على هذا الارتباط -أي المقدمات الطللية- فإن الضابط النقدي رفض هذا المروق النصي وادان حركتها خارج فراديس المكان الذي توغل الى ايقاعاتها وموسيقاها او ليس العروض الخليلي هو الابن الشرعي للمكان وتحديداً الصحراء بثقافتها وخيامها بعمودها واوتادها واسبابها؟! ومثل هذا ينسحب على اللغة الشعرية العامية في اليمن وتحديداً القصيدة الحمينية(1) المحتفظة بولائها لبحور الخليل وانتمائها المصيري الى المكان، فما ان تقرع سمعك ايقاعاتها حتى تمثل أمام ناظريك نوافذ اليمن المزركشة، ونكهة بنّها، وشذا بخورها، وخضرة جبالها الحالمة، وألق بيوتها المتربعة على عرش النجوم، وهو ما يصدق على حمينيات قصائد الشاعر اليمني عباس الديلمي في مجموعته الغنائيات الصادرة عن مطابع التوجيه المعنوي للقوات المسلحة، ط2، صنعاء 2006 -وتحديداً المفصل الموسوم بالغنائيات -اي القصائد المغناة-(2) لا سيما وان المجموعة الشعرية تمفصلت الى مفصلين هما (الغنائيات والوحدويات)(3) لتجعلك وجهاً لوجه مع بنية شعرية مخضّلة بمباهج المكان الذي يشهد تحقق الحلم الجماعي ببلد موحد ينبذ ثقافة التشطير والشتات، ووفقاً لهندسة شعرية طريفة تحتفي بالمكان الحميم الرامز للهوية والانتماء (اليمن) وتقوم على استدراج افق التلقي الى مناخات الهم الفرداني الذاتي لتنقله في خاتمتها الى الهم الجماعي المتمثل في استدعاء جسد المكان مكتملاً لا مشطوراً ومنقوصاً، وكاني بالمتخيل الشعري في صياغته للقصيدة الحمينية يعيد الى الذاكرة رصانة القصيدة العربية الفصحى زمن زهوها واحتفائها بطقوس المقدمات الغزلية ثم الانتقال بعد ذلك الى غرض القصيدة الاساس، لاحظ مثلاً قصيدة (وحدك ويكفيني، ص 145) المتشذرة تدوينياً إلى ثماني شذرات والمتكئة الى هذه التقنية واقصد بها استدراج افق التلقي لمناخات الوجد والمناجاة ثم انخطافة المتن من الأنا الى النحن لتتقشر عن تفاصيل الحلم الجماعي بوطن موحد ينبذ ثقافة الشتات، تأمل مثلاً الخمس شذرات الآتية:
وحدك ويكفيني      من جنتي سحرك
فلا ترى عيني        في عالمي غيرك
اظمأ وترويني        ممّا حوى ثغرك
اغوى وتهديني        للسير في بحرك
من يوم ناجيتك        كالبدر في الاغلاس
حبيت واخترتك        من بين كل الناس
روحي ووليتك        ياطيب الانفاس
قلبي وقاسمتك        مافيه من احساس
انظر الى قلبك        تعرف مدى حبي
فالشوق في حبك     من نار في قلبي
انت ازاء ثنائية (انا/انت) يتمظهر القطب الاول منها في ياء المتكلم (يكفيني + جنتي + عيني + عالمي + روحي + قلبي)، وينبثق القطب الاخر من كاف المخاطب (وحدك + سحرك + غيرك + ثغرك + بحرك + حبك + سربك + دربك) وهي ثنائية تتحرك لتتماهى تركيبياً ودلالياً في (ناجيتك + اخترتك + وليتك + قاسمتك + ترويني + تهديني) وهو تماه يعيه المتن ويشتغل على تكريسه لينقلك الى فراديس العشق ومناخاته الملبدة بالغبطة، الان الشذرة الخامسة تعلن عن بدء حركة قاطرات المتن صوب غرض القصيدة الاساس وبنيتها المسكوت عنها اذ يرد:
اطير في سربك       لا اشتكي ما بي
وما اتضح دربك      في الحب الابي
ليتحول الخطاب الى نبرة أخرى ومناخ آخر يجمع بين الذات المتكلمة داخل النص والمكان الحميم بل ان البيت الأخير يضيء دور الشاعر الملتزم في الاعلان عن الحلم الجماعي وكأنه صوت الضمير الجمعي وحارس احلامه الامين، وهو ما يتعزز في الشذرة السادسة التي تذيب ثنائية (انا/انت) في ضمير الجماعة (نا)، تأمل:
بالحب وحدنا        ما كان امس اثنين
بالوصل، ضمدنا    جرح الجفا والبين
بالود جددتا          عهد الوفاء يازين
والانس يسعدنا      يا جفن ضم العين
من اللافت ان احتشاد ضمير الجماعة (وحدنا + جددنا + يسعدنا) يحيل الى اكتناز النص بحلم الوحدة بل ان اغلاق المتن على (ياجفن ضم العين) اشارة الى تبلور الحلم حقيقة قائمة من جانب، ومن جانب آخر الرغبة في الاسترسال بمناخات الحلم، زد على ذلك فإن النص يؤرخ لحدث الوحدة اليمنية بإسلوب شعري يبتعد عن التقريرية والمباشرة وعبر تقنية تضيء بؤرة النص التي قدمها لها المتخيل الشعري بمطلع غزلي شأنه شان القصيدة العربية التي تمهد للغرض الاساس بمناخات تشد انتباه التلقي ثم تنتقل وعبر تقنية حسن التخلص الى البؤرة الاساس بعد ان يتأكد الشاعر من انصراف التلقي اليه تماماً واذا ضمن ذلك فإنه يطرح بين يديه فاكهة النص التي انضجها الوعي الحاد بتقنيات صياغة القصيدة.
وقد يصوغ المتخيل الشعري بنية شعرية تتحرك وفقاً لنسقين: الاول (منطوق به) يعكس وجه المعشوقة التي يناجيها النص، ونسق (مسكوت عنه) يضيء وجه (المكان/ الحلم/ الملاذ/ الرحم)، لاحظ مثلاً قصيدة (ما على الناس والملامة، ص 17) المتشذرة تدوينياً الى ثلاث شذرات، تأمل تحديداً الشذرة الاولى، ولاحظ كيف انتقل المتخيل الشعري من الضمير الفرداني (كاف الخطاب) الى الضمير الجماعي (نا):
من يمينك وبالسلامة
قد شربت الهوى بكاسين
واتحدنا وبالعلامة
اننا روح في حبيبين
حبنا اجمل ابتسامة
وانا وانت اسعد اثنين
ما على الناس والملامة
اين هم من نعيمنا اين؟
تزيح عبارة (اتحدنا) النقاب عن وجه (المعشوقة/ المكان الحميم الرامز للهوية والانتماء) لينقلك المتخيل الشعري وبوعي جمالي حاد من الانشطار والتمزق الى الاكتمال، وتكرس الشذرة الثانية احساسات الغبطة العارمة التي فاضت على جسد المكان، لاحظ الاتي:
ليت لو ان كل انسان      ذاق معنى عناق الارواح
ماشتكى من عذول ولهان   لا ولاسال دمع سفاح
ليتهم يا سرور الاعيان    مثلنا في هنا وافراح
في فؤادي تقوم القيامة    لو تغيب ثانية عن العين
وتضيء الشذرة الثالثة كينونة هذه (المعشوقة السامية المقدسة/ الحلم/ الملاذ)، التي تمنح الذات العاشقة تاشيرة لفراديس الوجد والامان والزهو، وتامل الاتي:
حول حسنك اطوف واسعى
         وابتهل في خشوع زاهد
أبتهل للاله يرعى
         حبنا في نعيم خالد
وارجم الحاقدين سبعا
         وأحرسك من عيون حاسد
والذي طبعه العدامة
         يكتوى في جحيم نارين
من اللافت أن اسدعاء المتخيل الشعري (حول حسنك أطرف + أسعى + ابتهل + ارجم الحاقدين) يجعلك وجها لوجه مع طقوس الوجد التي تمارسها الذات العاشقة في محراب المكان المقدس (اليمن).
ومثل هذه التقنية تنسحب على قصيدة (لف عقلي لفوف، ص 122) المشذرة تدوينيا إلى أربع شذرات، حيث يبلور المتخيل الشعري مقدمة غزلية خالصة تسدعي وجه المعشوقة الممتزج بالطبيعة في الشذرة الاولى ليهتك في الشذرة الثانية غلالة الرمز التي تؤطر هذه المعشوقة لتكون وجهاً آخر للمكان وتكرس الشذرة الثالثة مكنون الرمز
حين تعلن:
يا بدر ماتحجبه عنا بروج الكسوف
ولا المسافات تبعد بيننا والزمن
ناغيت قلبي باجفانك، وأنت الرؤوف
بكل من ذاق من طعم الهوى وافتتن
برح بي الشوق لوان الثريا تشوف
قيامة الشوق في مهجة سهيل اليمن
كنا انشرحنا، وخلينا العوالم وقوف
لفرحة الوصل، والمكتوم يصبح علن
يفضح البيتان الثالث والرابع بؤرة النص وانتقاله من الوعي الشعري الى اللاوعي الجمعي ف(الثريا وسهيل) تحيلان بالضرورة إلى المكان المشطور (الشمال والجنوب) كما أن البيت الأخير ينقل قاطرات النص صوب ضمير الجماعة (كنا+ انشرحنا + خلينا)، وتأتي الشذرة الرابعة لتلاحم بين الهم الذاتي والهم الجماعي الذي يستحضره متخيل الشاعر لحظة صياغة النص حين يقول:
وصوت أيوب يشدو بين نقر الدفوف
والمحجرة من ربا صنعاء وساحل عدن
غنوا و(هنوا لقلبي عند قلبي ضيوف)
وباركوا وصل عاشق بالعشيق اقترن
أن اتساق ايقاعات الابتهاج تتحرك لتفيض على جسد المكان(ربا صنعاء+ ساحل عدن) لتنقلك من تمزق العاشق بفراق المعشوقة إلى تمزق المكان مابين الشمال والجنوب، وكأن الشاعر يريد أن يقول لن يتم الفرح الا باكتمال جسد المكان.
القصيدة باختصار اتكأت إلى التقنية ذاتها فثمة مقدمة غزلية مترعة بمباهج الذات العاشقة تتقشر عن الغرض الأساس الذي من أجله كتب النص، وخاتمة تتمركز عند الحلم الجماعي (الجسد الموحد للمكان)، لتبلور هندسة طريفة تقوم على هتك الاغلفة الدلالية واحداً واحداً وصولاً إلى جوهرة المعنى المسكوت عنها والتي بالضرورة هي قضية النص التي تشغل وعي الشاعر لحظة صياغة القصيدة.
وتنسحب هذه الهندسة على قصيدة (ذخر الشدايد، ص 128) التي ارخت لزلزال ذمار 1982م والمتشذرة تدوينياً إلى أربع شذرات، حيث يخاطب الشاعر في الشذرة الاولى إنسان المكان خالعاً عنه انتماءه المكاني (الشمالي والجنوبي) لينتقل من تمزقات المكان أثر الزلزال إلى تمزقات المكان الحميم تحت رياح الشتات، تأمل الآتي:
يا شقيقي وذخر الشدايد
وإجتياز المصاعب
الهدف مثلما النهج واحد
في الرخا والنوائب
من اللافت أن استثمار المحمول اللفظي (شقيقي) بذاكرته المكتنزة بالانتماء المشترك للابوين - ليكون صيغة للتحاور مع إنسان المكان الذي يشترك معه ب(النهج واحد) - يؤشر التوق إلى التذكير بالتاريخ والحضارة المشتركين، فضلا عن المعتقد، ويستمر في الشذرة الثانية ببوحه الراعف ليقول له:
أن جور لي حمول، فأنت ساعد
وأنت كامل وغارب
مثلما نا سند لك، وواجد
كلما حان واجب
 هي لنا بالتعاون عوايد
قهر جور المصائب
جرحنا في ذمار، جرح
حاشد والمكلا ومأرب
يحضر المكان (ذمار + حاشد + المكلا + مأرب) لتكون لآلىء تزين جسد المكان الذي مزقته نصال الشتات، والمتخيل الشعري ينتقل واعياً من الحوار الفرداني بين (أنا) النص والاخر المتكور داخله (أنت + أنت + لك) إلى ضمير الجماعة (نا) في (لنا + جرحنا)، لذا فهو يختم النص بالشذرة الرابعة يرد فيها:
بالتعاون ولم السواعد
كم غلبنا غلايب
وكأن الشذرة الاخيرة هي بيت القصيد الذي مهد له الشاعر في قصيدته التي تشبه مرثية للمكان الذي عصف به الزلزال، لقد شاء المتخيل الشعري أن يجتاز بالتلقي من مناخات المكان الذي أنهكه التشطير والزلزال معا إلى أمكنة مشرقة مترعة بالنور.
وخلاصة القول: فاذا كانت وحدويات عباس الديلمي في مجموعة (الغنائيات) قد ترنمت بشكل صريح بمنجز الوحدة فإن غنائياته قد ترنمت وعبر مناخات الوجد بهذا المنجز حيث امتزج وجه المعشوقة بوجه المكان الحميم اليمن، وعبر تقنيات مدروسة، اتكأت إلى الذاكرة الشعرية وتحديدا معمار القصيدة العربية الفصيحة القائمة على مقدمة غزلية تنجح في استدراج افق التلقى إلى بؤرة النص التي تكمن بالضروة في خاتمة القصيدة، وبما يشبه لحظة التنوير التي ينتقل عبرها من الهم الذاتي الذي يلف مناخ القصيدة إلى الهم الجماعي الدي يشغل الوعي الجمعي لحظة صياغتها، بمعنى أنه ينتقل من الحلم الفرداني إلى الحلم الجماعي ومباهجه وهو يرنو إلى جسد المكان المكتمل.
< الهوامش:
(1) ربما تعود تسمية الحميني إلى الدولة الحميرية التي حكمت اليمن من 115 ق.م إلى 525 (انظر: التيجان في ملوك حمير، وهب بن منبه، رواية محمد بن عبدالملك بن هشام، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد 51347، ص 301) وسقطت على يد الاحباش، وقد عزز هذا التأويل عبارة (حميرن) التي تطلق على الشخص الذي ينسب إلى حمير، ولا يخفي التطور اللفظي للكلمة الذي ربما اسقط الراء تخففا وتسهيلا وهو ديدن لغتنا العربية وأضيفت ياء النسبة للنص والشخص الذي ينتمي للدولة الحميرية على حد سواء (انظر: المدخل إلى علم اللغة، مناهج البحث اللغوي، د. رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة 1985، ص 119 وما بعدها) ربما وقع في هذا الخلط بين الراء والنون صاحب القاموس المحيط؛ إذ قال في مادة (ح م ن): في معجم اللغة، حمين كزبير له مسجد بالكوفة " (القاموس المحيط، الفيروز ابادي، دار صادر، بيروت، (د. ت) وهو يقصد الحميري، وأحسب أن سقوط الدولة الحميرية على يد الاحباش قد ولد في روح الانسان الحميري أحساسات عارمة بالانتماء القومي للدولة المنتهكة والمستباحة فظهرت النصوص التي تعلن ولاءها للملك المنهار، لا سيما وأن ثورة على الاحتلال الحبشي قد قامت على يد سيف بن ذي يزلن ليعيد الملك لحمير، فتحولت مضامين هذه النصوص من نصوص تباكي على الملك المغتصب إلى نصوص تترن بعودته، ربما ارتكزت الاقوال التي اصلت إلي عودة القصيدة الحمينية إلى قبيلة حمين التي كانت تقطن تهامة (انظر: المعجم اليمني في اللغة والتراث، مطهر علي الارياني، دار الفكر، دمشق 1996، ص 197 وما بعدها) إلى هجمة الاحباش الشرسة التي احرقت البيوت ودمرت الامكنة جاءت عن طريق المخا (مخون) انظر: موجز التاريخ السياسي القديم لجنون شبه الجزيرة العربية، اليمن القديم، إسمهان سعيد الجرو، مؤسسة حماد، اربد 1996،ص 280) هذه الهجمة التي هدمت قصور اليمن (سلحين) و(وبينون) و(غمدان) التي عدت من عجائب العمران (التيجان، ص 302) حتى قال عنها ذو جدن الحميري:
أوما سمعت بحمير وقصورها
               أمست معطلة مساكن حمير
فابكيهم إما بكيت لمعشر 
               لله درك (حمير) من معشر
(انظر: نفسه، ص 302) وربما يعود مسمى حمين إلى (حميم اله الشمس الحميرية) وقد قلبت الميم نوناً لتقارب المخارج الصوتية بين حرفي الميم والنون،(انظر: المدخل إلى علم اللغة، ص 227 - ص 228) وإليها تنسب القصيدة الحمينية التي تبقى قضية تسميتها تحتاج إلى كثير من التأمل والتقصي.
(2) شدت بقصائد الغنائيات حنجرة فؤاد الكبسي وعلي عبدالله السمة وأحمد السنيدار وعلي الآنسي وحمود الجنيد وعبدالرحمن الأخفش وأيوب طارش وأمل عرفة ومحمد حمود الحارثي وفهد يكن ومحمد قاسم الاخفش وعبداللطيف اليعقوب وعبد الكريم قاسم.
(3) عزف عباس الديلمي في هذه المجموعة الشعرية باقتدار علي أوتار القصيدة الفصيحة والحمينية؛ إذ تمفصلت إلى مفصلين هما (غنائيات ووحدويات) ليصوغ بنية شعرية طريفة تختفي بالمكان الرامز للهوية والانتماء (اليمن) فهي تارة تطل عليك بشكل قصائد فصيحة وحمينية انطوت تحت المفصل المسمى وحدويات وهي قصائد أرهصت بالوحدة وبشرت واستبشرت بها، وقد مهد لها عباس الديلمي في القسم الأول من أهدائه بقوله: (إلى كل وحدوي يحرس الوحدة بالوحدة) وقال في القسم الآخر من الاهداء (إلى القلب الذي يخفق بجانب قلبي) ليحيل إلى المفصل الثاني من المجموعة وقد جاءت تحت مسمى غنائيات - محور الدراسة - وقد اعتمد الديلمي في المفصلين تقنيات شعرية إضاءت ملامحة اثناء صياغة القصيدة وحركة عينية التي ترقب زرقة البحر وخضرة جبال اليمن الشمَّاء.

(منقول من صحيفة 26 سبتمبر العدد 1344)


المقال الثاني

ومضات: قصيدتان غنائيتان: للشاعر الكبير عباس الديلمي







عبدالعزيز المقالح






اذا كان الحب هو اجمل كلمة في الوجود، فإن شعر الحب هو اجمل ما في ديوان الشعر من كلام. وإذا كانت الكلمات في الشعر تأخذ انساقاً وابعاداً متعددة المعاني والاغراض، فإنها-اي الكلمات- تستعيد في شعر الحب ألقها وروحها وتمتلك طاقة التبليغ الاعمق، تلك التي تصل الى القلوب مباشرة وتستقر في الوجدان، وشعراء الحب منذ عمر بن أبي ربيعة والعباس والاحنف،وحتى نزاز قباني والى عباس الديلمي، هم الاقرب الى شاعر قرأ الشعر على اختلاف مستوياتهم الثقافية والفكرية، وذلك لأن سيرورة فنية وعاطفة متفردة تتحكم في مقاربتهم الشعرية، وتستحضر معهم رحلة المكان والزمان، فضلاً عمّا يشيع في لغتهم من وميض خاص، يختزن نجوى المحبين وذاكرة عشاق الحياة في انقى صورها واكثرها فوارناً وجمالاً.


ولا اخفي ان احلاماً كثيرة تتراءى لي في بعض ساعات الصفاء، أرى فيها ان وقتاً سيأتي في تاريخ البشرية القريب يكون خالياً من الحروب والمنازعات والعداوات، تسود فيه بين ابناء الارض حالة من الحب والحكمة والعدل، ويتفرغ فيه الناس جميعاً الى اعمال البر والخير والاهتمام بالفنون الراقية والموسيقى، التي تنقّي الارواح ممّا علق بها في سنوات المواجهات غير المبررة انسانياً من اوساخ الاهواء والمطامع وصناعة الكراهية، وفي هذا الزمن المتخيل الجميل الذي لا أشك في تحققه على الارض التي شبعت من الدماء والكراهية، سوف يكون الحب بمعناه الخاص والعام دليل هذه البشرية التعيسة الى المدينة الفاضلة التي سعت الاديان السماوية الى اقامتها على الارض.


في هذه الصفحة احدث اغنيتين للشاعر الكبير عباس الديلمي، وهما مكتوبتان بلغة فصحى سهلة الالفاظ وقريبة الى روح الجمهور، وكعادته في كل قصائده الغنائية يحرص على الابتعاد عن منطقة الابتذال ودغدغة الغرائز، ويعمل على السمو بالمشاعر والارتقاء بها لتكون تعبيراً عن العواطف النبيلة وارتعاشات الروح السامية. احدى هاتين الاغنيتين هي بعنوان (هو الحب) حصلت على المرتبة الاولى في مسابقة للاغنية الاذاعية العربية لعام 2008م.


اما الاغنية الثانية وهي بعنوان (أنت الحبيب) فلم يسبق نشرها، والاغنيتان من تلحين الموسيقار المبدع أحمد بن غودل واداء الفنان نجيب ثابت. ويكفي تقديراً لهذا المستوى من الكتابة الابداعية ان تحظى احدى هاتين القصيدتين بالمرتبة الاولى في مسابقة عربية، حيث امتزج فيها الحب بمعناه العام بالحب بمعناه الخاص، واستطاعت بطريقة غير مباشرة ان تكون دعوة للتسامح، وادانة للعقد، ومحاربة لكل الانحرافات الاخلاقية التي تشهدها مجتمعات الكراهية والاهواء.


وسيجد من يتابع الابداع الشعري الغنائي للشاعر الكبير عباس الديلمي سيجد ان هذه الخصوصية ماثلة في هذا المستوى من الشعر الغنائي كله، الذي كتبه شاعرنا سواء أكان باللغة الفصحى أم باللهجة العامية ويمكن القول ان هذه الخصوصية تتجلّى في اغلب السياج الشعري لهذا الشاعر الكبير منذ بداياته حتى الآن:


هو الحب


فاغسل به القلب


حصن فؤادك من كل ذرة حقد


وكره


ومن شائبات غبار الحياة.


هذا مقطع من قصيدة «هو الحب» وواضح انه يحمل دعوة حب مفتوحة، الى كل انسان يرغب في ان يغسل قلبه من الحقد، ويقيه من ادران الحياة وغبارها، ومن كل ما يلوث واقعنا ويعكر صفو الايام والاحلام. ولا يختلف الامر كثيراً أو قليلاً في القصيدة الغنائية الثانية المعنونة ب«أنت الحبيب» وهذا جزء منها:


يا أيها القلب المنور


بالمحبة


والضياء الملهم


طوّف بساحات المحبة


في نقاء المحرم


روح مطهرة من الاحقاد


لا كرها يعكر صفوها


شفافة كضياء نجم حالم.


وما احوج حياتنا الراهنة ليس في هذه البلاد وحدها، وإنما في سائر الاقطار العربية والاسلامية الى مثل هذا النوع من الخطاب الغنائي الذي يطهر الوجدان ممّا علق به من زيف وفقدان للقيم الروحية، وغياب شبه تام للقيم الفنية والجمالية في مستواها الراقي الرفيع.

(منقول من صحيفة 26 سبتمبر العدد 1409 )